الجمعة، أغسطس 14، 2020

أشتاق

أشتاق للحب والهوى يراودني….شعر عزيز امرزكيو – جريدة العربى اليوم ...


 لكل منا شوقٌ يخصه، يتحرك به قلبه، ويعاوده الحنين إليه مرة بعد أخرى..

نفحات الشوق التي تهب على القلوب غالبا ما تكون محملة باللذة والألم، وأنا أشتاقُ وأحس بتلك اللذة وذلك الألم في آن معا !

أشتاق إلى جدةٍ تقصُّ عليّ الحكايا بلسان حكمتها، وتردد نصيحتها بعين الرجاحة، وتكرر عليّ عيب و "خزوة" وافعلي ولا تفعلي بين الفينة والأخرى، جدة تقف إلى جانبي وأنا أغسل الصحون وترشدني إلى الحفاظ على الماء، وتردد علي حديث: "لا تسرف ولو كنت على نهر جار" ، جدة رغم لومها إلا أنها خرّجت وربت بنصحها, وفعلها وأدبت بحديثها، أشتاق إلى جدة ترد على سماعة الهاتف وتردد بصوتها المحمل بخشونة الأيام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تلوّن صوتها بها بنغمة صارت علامة عليها، يمكنني أن أستمع صوتها في أذن ذاكرتي الآن، وأحنّ إلى جدةٍ تلحّ في السؤال عما يجب فعله لتطمئن أن كل شيء على ما يرام!

أشتاق إلى جدة تقصّ عليّ حكايا الأولين، وتنشر ما طوي من صفحات خيالي ومشاهد الماضي التي لم تلتقطها عين الكاميرا، ولكن عين الخيال مع براعة الوصف تصل إلى أدق التفاصيل من تلك الحكايا، وتلتقط ما يمكن التقاطه مع مزج الخيال الذي يضفي على الصورة بهجة تنبع من عينيّ جدتي ! 

قصة "الفخيسوس والذرّة" التي تجللتها غلائل النسيان، وقصة "العكنبر والعكنبرة" التي غابت وضاعت وطويت في مجاهل الطفولة، وقصة القطة الجنيّة التي يسمونها: "حنّة" ، قصة كنت أستمع إليها من جدتي أم أبي ثم أعاود طلبها من جدتي أم أمي فأسمعها بالضبط نفسه والمحاكاة نفسها، ولغة الجسد نفسها، مما يدل على براعة في النقل وقوة في تأثير القاصّ الأول...

وحين يتسلل الملل إليّ تمسك إحداهما بيدي وتضرب بكفها على كفي ضربا متتاليا وهي تغنّي: طباخة يا طباخة، عيشة خميرة الحناقة، والقعيد والناقة، ثم تمسك أصباعي الأول فتقول: هذا لمن؟ أو لهومن؟ فأختار بصوتي الطفولي: ماما ثم تقول بعد أن تمسك الأصبع الأخرى وهذي لمن؟ فأقول: بابا وهكذا أعدد المقربين على عدد أصابعي فإذا انتهت الأصابع الخمسة، جعلت سبابتها والوسطى كالأرجل تسير على ذراعي حتى تدغدغني في إبطي.

أو تضعني في عمر أصغر على بطن قدميها وقد افترشت الأرض لترفعني عليها عاليا وهي تقول: وارخيمة، والناس نيمة وأبرار قيمة 😄 ثم تنزلني بتكتيك وترتيب حتى أهبط إلى الأرض بسلام.

أشتاق إلى تلك الأيام، أشتاق لعودة للوراء تزيل ليالي التفكير، وغرابيب الهم، وتعمل حوافز التفكير والخيال، أشتاق لجدتيَّ، جدتي التي أودعناها بطن الثرى رحمها الله، وقد فقدتُ حضورها المكتمل بعد أن فقدت قدرتها على الكلام بجلطات أودت بطريقة كلامها، كانت جدتي ذكيّة نابهة خفيفة الظل تعرف كيف ترد ومتى ترد، قوية تحكي عنها جدتي الأخرى وتذكر أوصافها في الطفولة، وكيف كانت قوية تقود ولا تقاد، وأحكي أنا على قلبها الأبيض وطيبتها وكرمها، وقد بقيت متمتعة بذكائها وقوة ملاحظتها رغم ما أصابها من مرض حتى باغتها مرض الموت وغابت ولم تعد إلينا، جدتي التي لم أر فيها الحرص الذي يصاب به الإنسان عندما يكبر، بل كانت زاهدة في أثمن أشيائها، رحمة الله عليها وبركاته، وجدتي الأخرى التي نسأل الله أن يمتعنا بها وأن يعيد لها صحتها وذاكرتها، فقد أصابها الخرف، ولم تعد كما كانت حكيمة أريبة تقدر الأمور بمقاديرها، كانت تحسن الطبخ والنفخ، وتصنع لنا حليبا أشرب في دفئه السعادة وفي رائحة زنجبيله وهيله الهناء، أما الآن فهي كالأطفال 😢 لا تحسن تصريف أمورها فكيف بأمور غيرها ؟

ولا إخال العودة لتلك الذكريات ممكنة، ولا استعادة الصحة، ولكن ننتظر الرجوع إلى الله ليعود كل ما فقدناه ومن فقدناه 💔




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق