الأحد، سبتمبر 02، 2018

أيام النور.



لم أتخيل ولو للحظة أني سأكون من أسراب حجاج بيت الله عامي هذا، حتى الجمل الذي كان يزورني في منامي قبيل موسم الحج لم يأتِ هذه المرة!
فقدتُ الأمل في أن ألبي مع الملبين، وأقول "ألله أكبر" في كل جمرة أرميها مع الرامين!
حتى فتحتُ عينيّ على رسالةٍ تعرض عليّ العمل في لجنة ثقافية في إحدى الحملات مع الحج، تهلل قلبي وتوجس، اجتمعت مشاعر الخوف والفرح، شعرتُ بثقل المهمة وعظمة المسؤولية، والأهم من ذلك طول الرحلة.
قرأت الرسالة على ماما .. أنا التي لم تنظر للحج لأنها فقدت الأمل فيه بعد القيود المفروضة على الحج، وفرض التصريحات و... و... و... جاءتني تلك الرسالة لتقول لي: القرار والأقدار بيد اللطيف الخبير.
لم أخبر أحدًا غير أمي وأختي بتلك الرسالة، وكتمت سعادتي حتى اقترب ميعاد الحج، وفي اليوم الخامس تحديدا جهزت حاجاتي وحزمت حقيبتي وانطلقت يوم الخميس أسابق الزمن حتى وصلتُ إلى مكان الباص الموعود، وركبته بعد أن احتمل أخي حقيبتي ووضعها في مكانها المخصص، سلمتُ على راكبات الباص، وجلست في مقعد جانب النافذة لأتأمل الطريق، وأصدق الخطى إلى أرض المشاعر "منى" وما أدراكم ما "منى".
سار الباص في الخط الدائري مخترقا كل تلك الأحلام المرسومة في مخيلتنا، ليفسح للحقيقة وحدها المجال، ويدعنا أمام الواقع الجميل، وصلنا إلى المخيم، لم نحمل أي حقيبة بل حملت إلينا حقائبنا، تعرفنا على الأماكن، كان الحياء غالبا عليّ فلم أحجز سريرا، ولم أشعر إلا وقد أخذت كل واحدة بنصيبها، فأخذت ما تبقى ولم يكن خيارا سيئا ولله الحمد!
قمنا إلى أعمالنا، فبدأنا بتعليق اللوحات التي جهزت في مكة، أخذت العاملات مكانهن الذي كان مملوءا بالسرر، لكنهن لم يسترحن فيه وقمن بتفكيك السرر ليستلقين على الأرض وينعمن بمساحة أوسع.
في اليوم الذي يليه بدأ استقبال الحاجيات فيما يسمى بالتسكين، حيث تأخذ كل حاجة مكانها حسب رقم التسجيل في موقع الوزارة، كانت بعض الحاجيات راضية بمكانها، وهناك من اعترضت على المكان، مُسنّة لم يعجبها أن تكون داخل المخيم فتبرعت لها شابة بمكانها الذي لدى الباب، وأخرى لا تحب الجلوس عند الباب، وجدت لها الحملة مخرجا وحُلت المشكلة بأن جعلوها في المكان المخصص لإلقاء الدروس، وتم استبدال ذلك بكل مرونة وسلاسة!
إحدى النساء دخلت ظهر اليوم الثامن تزبد وترعد وتدعو على الحملة ومن فيها، وتتحسب والغضب يكسو صوتها، وقد غطت وجهها بحيث لا يراها أحد، أمسكت بها مديرة الحملة واحتضنتها وذكرتها بأنها في الحج، وحاولت تهدئتها حتى أوصلتها إلى غرفة الطبيبة، وهناك جلبوا لها الماء والعصير لتشرب وتهدأ فلفح الشمس أثر فيها بلا شك! 
ولما سكت عنها الغضب أخذت تعتذر وتستسمح وتقول لا أدري كيف فعلت ما فعلت!
كان حفل الاستقبال في العصر، وكان علي أن أعرف الحاجات بلجنتنا وماذا سنقدم لهن، وكيف سيكون نظام الصلوات.
في ذلك اليوم بين المغرب والعشاء كان لدينا درس المناسك، رافقت ذلك الدرس رياحٌ عاتية وغبار كسا وجه منى فاكتست قلوبنا خوفا وكنت أخشى أن يسقط المخيم علينا لقوة الرياح، وسمعنا أن هناك حملات خرت سقوفها، وبعضُ جُدرها، أما مخيم عرفة فقد شهد أمطارا غزيرة أفسدت الفُرش، وبللت المخيمات حتى انخلع سقف أحد المخيمات، فبادر الفريق المسؤول إلى علاجه، وتداركوا المشكلة وسدوا الخلل ولله الحمد.
في تلك الليلة أعني ليلة التاسع من ذي الحجة ألبسنا الحاجات أساور القطار، وتعرفت على عدد منهن، وكسبت دعوات نقية من قلوب حاجة تدعو لي بكل خير.
ذهبتُ إلى سريري وقد أخذ النعاس بي كل مأخذ ونمت دون أن أنتظر إغلاق المصابيح في خيمتنا، ودون أن يسكت من حولي، نمت حتى صدح جوالي لإيقاظي، وحاولت تجهيز نفسي ليوم عرفة، أخذت ما أحتاجه إلى هناك، وانطلقنا بعد أن فرغ المخيم من الحاجات، سرنا من الساعة الثالثة في مشهد تفويج مهيب، الناس يسمعون الملبي فيجاوبونه بالتلبية، سرنا خلف راية الحملة حتى بلغنا القطار، وصلنا إلي عرفات واستقرت الراحلة هناك، خرجنا من كل باب، وسرنا نلبي حتى بلغنا المخيم وصلينا الفجر.
بعد الفجر لم أطق البقاء أكثر من ذلك، فقد كنت أشعر بدوار عرفت أنه بسبب قلة النوم، نمت حتى الساعة التاسعة تقريبًا وهناك استيقظت وأفطرتُ ثم ذهبت إلى الداعيات لأطلب منهن تقديم الدرس المخصص ليوم عرفة.
في عصر ذلك اليوم كان علينا أن نذكر الحاجات بفضيلة الدعاء والذكر هذا اليوم تذكيرا فرديا وذلك بالسير خلال المخيمات استوقفتني امرأة كانت ترعاني بعينها حتى بلغت مكانها، قالت لي: حتى اللي عندها وسواس؟
تفاجأت من سؤالها ، فإذا عيناها تذرفان، قلت لها: طبعا بلا شك كل شيء وأي شيء ادعي به الله اجعلي هدفك ألا تخرجي من هنا إلا وقد شفيتِ بفضل الله!
تركنا الحاجات وقد استقبلن القبلة في كل مكان ودعون الله جل جلاله دعوات وابتهالات تزيدك رغبة في الله وتشجعك على أن تأخذ مكانك بين الداعين والله كريم !
اقترب موعد النفرة إلى مزدلفة، أخذنا نخبر الحاجيات بتعليمات النفرة، فسألت إحداهن: أين سنصلي المغرب؟ هنا؟
قلت لها: نصليها هناك إن شاء الله نكون قد وصلنا ونصليها!
تذكرتُ لوهلة أن علينا أن نذكرهن بالجمع والقصر، فقلت لهن تكون الصلاة في مزدلفة جمع تأخير مع القصر، فقامت إحدى النساء، وقالت: ما هذا السؤال؟ من وين جايين؟ أحد ما يعرف هذا الكلام؟ وكأنها تستقل سؤال أختها، قالت الأخرى: وما يدريك هناك من يضللن في قراءة الفاتحة فاحمدي الله!
صمتُّ وأخبرت المديرة أنه يجب أن نشير ولو من طرف خفي إلى ضرورة مراعاة أفهام الناس، وإذا علمك الله شيئا فلا تتكبري على الناس!
وفي الطريق إلى مزدلفة في ذلك اليوم الحافل بكل شيء الأحداث والناس والتلبية والدعوات وكل شيء، كان هناك رجل يتحدث إلى صاحبه ويبلغني شيء من صوتهما وهما يتحدثان يقول له: هل ترى هذا الجمع الغفير؟ إنهم نموذج مصغر ليوم القيامة، نحن هنا لم نتحمل الوقفة وهي يسيرة، أما الوقوف الذي سنقفه يوم القيامة انتظارا للحساب أطول من ذلك بل تكون الشمس فوقنا، منهم من يبلغ العرق إلى كذا ومنهم من يبلغ إلى كذا ومنهم من يلجمه العرق إلجاما.
كنتُ أتعمد استتباع كلامهما لأستمع فقد كان الكلام جميلا وكانت لغتهما فصيحة رضي الله عنهما!
وصلنا إلى مزدلفة بعد أفواج من الحجاج، وبعد مسيرة مضنية، صلينا العشاء وجلسنا قليلًا لتناول العشاء، وبدأت دوامة جمع الحصوات والسؤال عن حجمها الصحيح، حتى صارت مديرة الحملة مفتية الحصى :) .
سرنا من مزدلفة لنعود إلى منى معلنين انتهاء أعظم يوم وأكثره أحداثا وترقبًا، هناك وفي المخيم نمنا بلا هوادة.
استيقظت على آلام في ظهري وجوانبي لأنني نمت على سجادة الصلاة وبشرشف الصلاة، قمت على صباح العيد يوم النحر، أفطرتُ والحمد لله، مضت أحداث هذا اليوم سريعة ما بين مواقف مضحكة وأخرى غريبة، أكثرها ظرافة ذلك الموقف الذي حصل لي، في أحد الدروس، حيث طلبت مني المديرة أن أحضر الحجار من شنطة المكبرات، فتعجبت من طلبها، لماذا تطلب مني الحجار؟ ربما خبأت نموذجا لتريه الحاجات ربما!
قبل أن أذهب قالت لي المسؤولة الأخرى عن اللجنة: لا تذهبي الآن سيأتي دورك سأرسل غيرك لتحضرها، وحدثت غيري، عادت ومعها بطاريات، لم أتمالك نفسي من الضحك، قلت الحمد لله أنك أرسلت فلانة لأني كنت سأبحث عن الحجار ولا أجدها فقد ظننت أنها تريد الحصى لتري الحاجات نموذجا لحصوات الجمار.
أقمنا حفل المعايدة بعد المغرب من ذلك اليوم، ووزعنا فيه إهداءات الحاجات، وتحدثت الداعيات عن منة الله سبحانه وتعالى على الحجيج وعلى الاصطفاء، وكان يوما جميلًا، أقمت فيه مسابقة للحاجات لوحة علقت فيها أظرف عليها أرقام داخل كل ظرف طلبا أو سؤالا أو لعبة :).
كنت في كل يوم ينتهي أشعر بقفزات سعادة، لم أشعر ولو للحظة بأني أريد استبقاء اللحظات وبطأها رغم استمتاعي بها، وهذا أمر جديد علي، ربما لارتباطه بمنيتي بانتهاء موسم الحج وجميع الحجاج سالمين، وربما اشتياقا لأهلي.
كنت داخل الحملة لا أستطعم الحج، كيف لا وأنا التي كنت أحج على قدم المساواة بيني وبين الناس غنيهم وفقيرهم ومتوسطي الحال منهم مثلي ! ولم أشعر بالحج حقا حتى خرجت لرمي الجمرات في اليوم 11 حيث وجدت فئام الناس يجلسون على الأرض يطمعون في فضل الله، يمتثلون أمره بالمبيت بمنى، يبحثون عن أي مكان صالح للجلوس فيجلسون، كنت أجيل نظري إليهم وأتمتع بمشاهدتهم إنهم حجوا إلى الله، وكابدوا ما كابدوا وعانوا ما عانوا ليكونوا في أسماء الحجيج، ما أجلّ حظهم وما أوفر نصيبهم!
يذكرني منظرهم بمن حصلت عليه عملية احتيال ولم يحر لديها جوابًا، ففي عام من الأعوام كنا نخرج لمسجد الحي فنجد عددا من الحاجات، وواكتشفنا بعد الحديث إليهن أنهن تعرضن لعملية احتيال من المطوفين الذين أخلوا مسؤوليتهم بعد أن أوصلوهم إلى مطار جدة، وتركوهم يهيمون على وجوههم!
جاء اليوم الثالث عشر، وجاءت الحاجات ليودعننا ويدعون لنا، كانت لحظات جميلة، لم أشعر فيها بالحزن على الإطلاق، بل كنت أنتظرها منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه المخيم، أحببت عددا من الحاجات، كما أحببنني، ثم حان موعد خروجنا لرمي الجمرات، رميناها وعدنا إلى المخيم وبقينا ننتظر باصا يذهب بنا حيث نقطة الانطلاق، عدنا إلى النقطة، وكان علي أن أنتظر أخي الذي تأخر فاستغللت الوقت وتجولت في ردهات أحد المتاجر، تركت حقيبتي في خدمة العملاء، وصرت أسرح وأمرح أنظر إلى الأكل وبطني جائعة، أخذت لبنا وشربته ووضعته في السلة :) ، اشتريت بعض الحاجات حتى اتصل أخي، حاسبت وخرجت ثم عدت للمنزل لأقص عليهم حكاياتي، وطفت وسعيت في اليوم الذي وليه، وأنهيتُ حجتي بفضل الله وحده.

هناك تعليقان (2):

  1. ما أجمل تفاصيل الحج!
    تسعدنا كما لو لم نكن نعرف السعادة من قبل..
    تقبل الله حجتك صديقتي، وأعاد الله علينا نعمة الحج أعوامًا وأعوامًا، آمين.

    ردحذف