الأحد، مايو 06، 2018

هل كان الأمر مستحيلا؟

        
صورة ذات صلة
       

      في المرة التي تجرأت فيها وتوجهت ناحية عمادة الدراسات العليا في المستوى الرابع من مستويات القراءات، سمعتُ كلمة تشبه إغلاق الباب في وجهي!
       قالتها لي وهي لا تدرك حجم ما خلفته في نفسي، وأكاد أجزم أنها لم تحسب لهذه الكلمة حسابًا، ولم تلقِ لها بالا، لقد وقفتُ أمامها أسألها: "أنا طالبة قراءات وأريد مواصلة مشواري التعليمي في الدراسات العليا في اللغة العربية، فهل يمكنني ذلك؟" وكان جوابها أبعدَ من العيّوق، وأجدر بغرس بذور اليأس في نفسي.

        تركتُها وأنا أنفض عن جنبي آثارها الشائنة، ولم أترك أملي الذي انتظرته، كان يفصلني إذ ذاك عامٌ واحد عن التخرّج، وقد بذلتُ من أجله الكثير، كنتُ أقطع الأعوام وأختزلها حتى تخلّيتُ عن فصل دراسي كامل من منظومة التعليم وجدول الساعات، أملا في أن تضع الحرب أوزارها وأقرر شقّ الطريق بنفسي، وكل ما كنت أحمله تفاؤلٌ بالخير، لكني لم أعد نفسي إعدادا جادا لأحصل على حلمي، غير أني كنتُ أمارس هوايتي التي قادتني إلى عالم اللغة، وأقدم لها الشعر قربانًا.

       ولما تخرجتُ وبدأ الناس يتنادون للالتحاق بمصاف الدراسات العليا، كان لي من ذلك التنادي نصيب، فطفقتُ أقرأ كل ما يمكنني قراءته للدخول لامتحان المقابلة الشخصية، وزاد الأمر في نفسي وثوقًا سؤال ابن صديقة أمي للجامعة عن إمكانية الدراسة في تخصص مختلف عن البكالوريوس، فأجابوه بإمكانية ذلك.
      وجاء اليوم الموعود، يوم اختبار المقابلة التحريرية، فدخلتُ برهبة وتوجّس، أحمل معي كل ما يمكن حمله من مشاعر متناقضة، كانت قوتي تزداد برؤية صديقتي منى التي رافقتني تلك الرحلة، في قاعة "الغزاوي"، وقد تذكرتُ أمي وهي تدعو لي وتوصيني بكتابة بيتين من الشعر أعبر فيها عن حبي وأملي في القبول، فكتبت أبياتا بعد أن أجبت عن الأسئلة، كانت الأسئلة سهلة يسيرة، وكانت أجمل إجاباتي تلك الأبيات الشعرية:
أتيتُ أحملُ أقلامي ومرسمتي وساقني الشعرُ حُبًّا نحو "غزاوي"
، دخلتُ والأمل المطلوب ينشُدني والحرف يطرب قلبَ المدنف الغاوي ، إما قبلتُم فذي والله مكرمةٌ وإن رفضتم سيبقى حبكم ثاوي

وضعتُ ورقتي بين الأوراق وخرجتُ، والأمل يذهب ويجيء.

        حتى أتى ذلك اليوم الذي كنتُ فيه في جدة، واتصلت بي الصديقة الحبيبة حنان تبارك لي، ولم أستوعب ما تقول، قلت لها: علام تباركين؟ قالت: اسمك ظهر ضمن المرشحات، قلت لها: متأكدة أنه أنا؟ قالت: نعم. وأخذت تعيد علي اسمي وتقول أليست هذه أنت؟ أنهيت المكالمة وسجدت سجود شكر لله تعالى.


       مضت المدة الفاصلة بين الاختبار التحريري والشفوي، وحان موعد الاختبار الشفوي، أو ما يسمى بالمقابلة الشخصية، وصلت الجامعة مبكرًا قبل بداية اللجنة، ولم أستطع أن آكل أي شيء، فقد كان الوقت يأكلني، وفي الوقت الذي كنت أنتظر فيه دوري كانت الأحداث حامية، وكنت أجيل طرفي في بعض الشخصيات التي عرفتني مسبقًا، وبعض الشخصيات الأخرى التي رأيتُها هناك للمرة الأولى، وبعض الصديقات اللواتي كُنَّ دفئا بما أسمعنني من دعوات!

      نودي اسمي، توجهت لقاعة الامتحان، وبدأت كالعادة بالتعريف بنفسي وبالكلية التي تخرجت فيها: "كلية الدعوة وأصول الدين"، قاطعتني الدكتورة التي كانت تجري المقابلة لتسأل الدكتور: هي من كلية الدعوة وأصول الدين، ومسجلة في كلية اللغة العربية، هل يجوز هذا يا دكتور؟ أجاب الدكتور بتهوّر: لا طبعا ما يجوز، يا أبرار اخرجي ولا تضيعي وقتنا!

        كانت هذه الكلمة أشبه بالضربة القاضية التي كنت أوجه فيها لنفسي آيات التعازي، كنتُ أراني أهلا لأن أكون طالبة للّغة، ولكني لم ألتحق بها بداءة، فلأعوض عند متابعة الدراسة، وحين أخرجوني شعرتُ بشيء غريب، شعرتُ بأني قد أديت ما علي تجاه نفسي، وأنني قدمتُ ما أراني أستحقه وهم منعوني فطيبي يا نفسي ولا تعودي للومي مرة أخرى، وبينما أنا أحادث صديقتي العزيزة فاطمة وأكاد أبكي؛ إذ بالدكتورة التي أجرت المقابلة تناديني وتقول: تعالي الدكتور يقول فيه مجال تُقبلي، وبطريقة ما! فقط انتظري ننهي المقابلة التي معنا ثم نختبرك!

        تسمرتُ في مكاني راجعتُ نفسي كثيرًا، جلست أنتظر نودي اسمي للمرة الثانية، دخلت، عرفت بنفسي، سئلتُ، وكنت أجيب بموجة عالية من الغضب، جعلني الدكتورالمقابل أقرأ القرآن وقال لي اختاري قراءة غير قراءة حفص، فقرأت أول البقرة واخترت قالون، ولا أدري لو أخطأت في القراءة أكان يطيق تصويبي! لا علينا المهم أني قرأتُ، وطُلب مني إلقاء شيء من شعري ففعلت، ثم سئلتُ عن أقسام البلاغة فتعجبت من السؤال فالبلاغة ليست أقساما ولكن علمها أقسام ثلاثة، فقال لي: المعاني. قلت: والبيان والبديع. هذا أبرز ما أتذكره من ذلك اليوم العصيب.
        درست دراسة تكميلية ثم التحقتُ بصفوف الدارسات، وقد هيأ الله لي صحبةً صالحة، يصدق فيهن قول الشاعر:
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي.
       وأول الأمر قُبلتُ بلا رقم جامعي، فكنتُ أحضر للجامعة بلا رقم جامعي، وظل الحال كذلك حتى فوجئتُ بأن عمادة الدراسات العليا العربية لا تستطيع المحاجة في شأن دراستي وأن محاولاتهم لإتمام قبولي باءت بالفشل، فقاربتُ الجزع، وكدتُ أترك ما أنا عليه وأجلس في البيت، لكن الله لطف بي وتم الأمر على أواخر الفصل الأول وبالتحديد في شهر صفر فقبلتُ وصدر رقمي الجامعي وأصبحت أمتلك بطاقة جامعية.

        مضت السنة المنهجية كأجمل ما تمضي سنينُ الدراسة والحمد لله، وبعدها حان موعد تسجيل الموضوع الذي عليّ أن أبحثه، ولن أطيل الحديث هنا حول هذه القضية، لكني سأعيد الحديث إلى أوله وأذكر حدثًا من عجائب القدر، وذاك أنه حين قُبلتُ كان على عمادة الدراسات العليا تسجيل المواد التي كنت أدرسها كي تدخل في جدولي، فلم يكن من أحد ليسجل لي المواد إلا تلك التي قالت لي يوما ما: "مستحيل". هذه التي كانت ترى الأمر مستحيلا أدخلت بيديها جدولي وكانت لي مساحة من التأمل، كدت أقول لها: هل كان الأمر مستحيلا؟

هناك 3 تعليقات:

  1. الله الله ما أعذب القول منك شاعرتنا المتيمة بالشعر!
    وما أغرب نهج من قابلوك وما أعجب فكرتك في نظم الشعر الدافئ في ورقة الامتحان. سيمو:)

    ردحذف
    الردود
    1. أزال المؤلف هذا التعليق.

      حذف
    2. مرحبًا سيمو الأجمل من ذلك كله مرورك وتعليقك واحتفاؤك بما أكتب ❤ ❤

      حذف