الجمعة، يناير 26، 2018

فضفضة مُذاكِر.

صورة ذات صلة
      وأنا أذاكر هذه الساعة مادّة أصول الفقه خطر على بالي موقف كنتُ أريد تسطيره منذ وقع، ولكنه الكسل والتسويف وهلمّ جرّا لكل ما يؤخر المسير، ويعرقل التفكير، والموقف هو، أن الشيخ الذي يدرّسنا مادة الفقه توقف فجأة عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير"، فقال لنا: أين دلالة الوجوب هنا؟!
       ثم تحدّانا أن نجيبه، ورتّب على ذلك جائزةً كتابًا، فماج عقلي بسيل من التّفكير، وكان قبلها بقليل يتحدث عن المصدر الذي ينوب عن فعل الأمر، فلم أجد مخرجًا في هاتين الكلمتين إلا هذا، وإن كانت كلمة "تحريم" ليست مصدرا نائبا ولكنها العجلة.
       تلقّفت المشرفة جزاها الله خيرا الورقة، وسلّمتها لمشرفات الدور العلويّ، ليوصلنها بدورهن إلى زوجة المشرف التي كانت تتولى مهمة قراءة المتن، فأخذت إجابتي وأنا في الدور السفلي وليس لي من حظ في المجلس سوى استماع الأصوات، أنا ومن معي من الأخوات، وفجأة قرأت ورقتي، وتفاجأت بأن الشيخ أثنى على طريقة التفكير، لكنها لم تكن سليمة.
       ثم شرع يتحدّث عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنّيّات"، ففهمتُ الحلّ من خلال سوقه للحديث، وهو يشرح طريقة القصر، فتأكد لي إجابتي وأيقنتُ أن الإجابة التي تتحشرج في صدري صحيحة، وبعد شدّ وجذبٍ بيني وبين نفسي، التفت إلى أمّي وقد كنتُ بجوارها، فقلت لها الإجابة كذا وكذا، هل أطلع لإلقاء الحل؟ أم أترك الأمر؟ فازداد إلحاح الفكرة في رأسي مع إلحاح والدتي عليّ بالمشاركة، فاستأذنتُ المشرفة وترجلتُ حتى وصلتُ إلى القاعة العلوية.
       وقفتُ ألتقط أنفاسي، في قاعة بنظام المدرجات بابُها آخرُ ما فيها، والمنصة في المقدمة مقابل الباب، رفعت يدي في الخلف، أريد أن أجيب وأعود لمكاني، نظرت إلي قارئة المتن (زوجة الشيخ) وابتسمت وأومأت أن حسنًا، وكانت تصلها الإجابات في ورق، وهي تقرأ، ومع كل ورقة أقول: الآن ستقرأ الجواب، ثم جاء دوري وسمحت لي بالكلام، قبل أن يجيبها أحد، فقلت: الصياغة هنا مبتدأ وخبر، وكلاهما معرفة وهذا أسلوب من أساليب الحصر. فأعادتْ عليهِ ما سمعت مني، فقال الشيخ: الذي أجاب هل حضر معنا في بلوغ المرام؟ نظرتْ إلي تنتظر جوابي: فقلتُ لها. ثم قالت: لا. قال: هل سمع مني هذا السؤال قبل ذلك؟ فأعادت الكرة تترقب الجواب، قلتُ: لا. قال: إذن أعطوه الكتاب فجوابه صحيح.
       ثم إنه أراد أن يتأكد أكثر من تمكني من الجواب وأني لم أُلقِ بالمعلومة جزافا بلا فهم، فقال لزوجته: هذا الذي أجاب سليه ناديه. وقد كنت وليتُ ولم أعقّبُ، أريد العودة إلى قاعتي وإذ بالنساء يصرخن بي مناديات، أقبلي أقبلي، الشيخ عنده لك بعض الأسئلة، فعدتُ، فطلب مني تبيين معنى كونهما معرفة، وإذ بزوجة الشيخ تناولني المكبر كي أتحدث، وتفاجأت بهذا التصرّف واستحييتُ، لكني على كل حال تحدثت، وبينتُ أن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة اكتسبت التعريف، وهذا ما حصل في كلمة تحريمها، فقد أضيفت إلى ضمير والضمير من المعارف، أما كلمة التكبير فمعرفة بأل، فمن هنا جاءت دلالة القصر، وفهمنا أن الصلاة لا تنعقد إلا بالتكبير والمقصود تكبيرة الإحرام.
       طبعا لا أقص عليكم كيف ضجت القاعة بهذه الإجابة، وكيف صفّقوا لي إعجابا بما صنعتُ، وهذا من نعمة الله عليّ التي لا أنكرها، ولكن لأصدقكم القول، لا أشعر أني صنعتُ ما يستحق الإشادة التي جعلتهم يسألونني بعدها كيف عرفت؟ وبعضهن أشعن أني معلمة، والبعض الآخر اختلف فيّ، وإحداهن سلمت علي وقالت: لقد أصبحتِ مشهورة! وكأنني أتيتُ بما لم يستطعه الأوائل، أو تعلقتُ بالعيّوق، أو شققتُ لهم عن نهري زمزم! 
       وعندما وصلتُ إلى قاعتي بعد أن حبسوني استقبلتني الفتيات هناك بالتصفيق والتباريك، وكأنني ختمتُ المصحف، والله أكبر كبيرًا! وأنا لا أعترض على الاحتفاء بي بقدر ما أحزن على كوني في عيونهم قد أتيتُ بالعجائب.
       وأيا يكن فقد تأملتُ هذا الواقع، وفرحتُ بنعمة الله، وعرّفتُ نفسي جيّدًا أنني لم أصنع شيئا ذا بال، حتى لا يعتلي الغرور عرش قلبي فيدمر الجميل الذي بقي فيه! لكن الذي لا أنساهُ أمران؛ أمرٌ مضحك غير طبعي، وأمر طبعي محزنٌ!
       فالأول: هو ما لحظتموه من خلال القراءة للقصة وأن الشيخ يستخدم معنا صياغة المذكر، وهذا ليس تصرّفا مني أو غفلة، بل هكذا قال، هذا الذي أجاب وكأنني ذكرٌ لا أنثى، ولا أعرف إن كنتم مررتم بمثل هذا :) .
      والآخر: هو أنني وفي فترة احتباسي في القاعة العلوية طُلب مني الجلوس على أحد الكراسي كي أكون قريبة إن أراد الشيخ استجوابي :)، فدار حديثٌ حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، وهي صياغة مشابهة لصياغة: "تحريمها التكبير"، فنظرت إليَّ امرأة لا أعرفها بطريقة غريبة وأسأل الله ألا أكون أسأت ظني فيها، أو ظلمتُها وقالت: يالله! جاوبي! نظرتُ إليها، وتبسمت، ولم أنبس ببنت شفة، ثم سارعتُ إلى قاعتي.

تسألونني عن الهدية؟ هديتهم كُتيّبٌ لا يجاوز ١٠٠ ص إن لم يكن أقل من ذلك، عن أحكام الجهاد، أما أنا  فهديتي لنفسي أني كسبتُ التحدي.


كانت هذه جولة خفيفة وفاصل لطيف استغرق أكثر من الوقت المفروض لكتابته، المهم أنه خرج، فأخرج مدونتي عن صمتها، وهذا من بركات الاختبارات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق