الأربعاء، أكتوبر 12، 2016

موقف

نتيجة بحث الصور عن ذكريات

سألتُها..
هل ستحضُر الموجهة اليوم ؟!
كان ذلك في الصف الأول الثانوي ، في درسٍ بلاغيّ وكنتُ أجلسُ في الصف الأول في منتصف القاعة في المقعد الأيمن بالنسبة للناظر للسبورة ويلاصقني مقعدان .
كانت المسافة قريبةٌ بيننا وكان صوتي أخفضَ  من أن تسمعني ولكنها سمعت ، وقالت لي : ليش تسألين ؟!
كان ذلك قبل أن أعرف أن من عادة النساء أن ترد على السؤال بسؤال لعمل هجمة مضادة وردة فعل عكسية تبقي الأوضاع الدوبلوماسية على ما يرام ..
وكان جوابي خائبا للدرجة التي جعلتني أعيد النظر في بؤسه وتزحزحه من حيّز التفكير إلى حيز اللسان دون أن أزن كلامي بميزان المجاملة أو حتى أفكر في قيد الدرجات قلتُ بكل براءة: لأنكِ أحضرتِ معك هذه الأشياء .
كانت تلك الأشياء التي أحضرتها مثيرة للدهشة كسؤالي الذي أثار دهشتها تماما ، وجوابي بعد سؤالها الذي شكل لها صفعة لم تتخيلها ولم أستشعرها وقتها ..
 لم يكن الوقتُ مناسبا لاستشعارها لأنها كانت مشدوهة بحضور الموجهة ولعلها خشيت أن تلج الموجهة الفصل وتسجل عليها موقفا غير تربوي وهي تؤنب فتاة صغير لم تجاوز الخامسة عشر من عمرها.
أمضت درسها وأنا أمارسُ  براءتي اليومية وأشارك بوجهٍ "وسيع" كما يقولون ! والموجهةُ قابعة في الخلف كالعادة قد استفردت بطاولة "ماصة" و "كرسي" وأخذت تسجل أشياء لم أكن أعرفها إذ ذاك ، لكن الذي بدا واضحا وضوح الشمس كمية اللطافة التي غرقت فيها أستاذتي يومها ، وطول النفس ومحاولة الإفهام  والتفهيم والبيان والتبيين.

وكان من الغباء بمكان أن نواجه الأستاذة بلطافة مصطنعة من أجل "تبييض وجهها" و "رفعة رأسها" ونتعامل مع التمثيلية الكبرى بأخرى مثلها غير أن سؤالي الأول أفسد الإخراج والدراما المصطنعة !

كانت أدوات التمثيل التي أحضرتها عبارة عن زجاجة عطرية جاءت بها لتشرح لنا أركان التشبيه وكأننا لا نعرف العطر ، وصورة على ورقة طباعة لا أذكر ما هي بالضبط ولكني أظنها شمسا أو شيئا من هذا القبيل ، ولا أعيب عليها إحضار أدواتها تلك مهما بدت ساذجة ومعروفة معاذ الله ! ولكني أعيب اختصاص ذلك اليوم بهذه الأدوات غفر الله لي ولها !
انتهت الحصّة وتوالت بعدها الحصص ، ولم تُحطني اللائمات بعد الحصة ويلمنني على موقفي ، ولم يُشعرني أحد بجرمي بل حتى نفسي اللوامة لم تشعر أنني صنعت شيئا مريبا في نظرها.

ربما غابت اللائماتُ عني لأن صوتي لم يكن مسموعا ! أو لأن الفوضى كانت عارمة أول دقيقتين في الحصة باعتبارها الحصة التي تلي موعد الإفطار "الفسحة" ربما ..

جاء وقت الانصرافِ وحملتُ حقيبتي وتوجهتُ إلى الدرج الكبير الذي يبعد عن فصلنا ولعل السبب في ذلك تخصيص الدرج الصغير للمعلمات ، رغم أني أذكر أني نزلت منه مرارا وتكرارا لا أعرف حقا لماذا توجهت إلى الدرج الكبير البعيد لكن هذا ما حصل ، ولا أدري أيضا لماذا قطعتُ ساحة المدرسة الداخلية رغم وجود باب أسفل الدرج الكبير يُمكن الخروج منه للساحة الخارجية دون توسط الساحة الداخلية لكن قدرا ما هناك كان ينتظرني ..

سمعتُها تناديني ..
أبرار أبرار 
وكأنها تقتنص الفرصة لتبوح لي بما صنعته بها فتاة ١٥ ربيعا ..
-هلا 
-أنا زعلانة منك
-ليش أستاذتي إيش سويت ؟! (كان ذلك بوجه بريء وابتسامة متأرجحة وروح مشفقة تحب التصالح مع الكون)
-إيش السؤال الذي سألتني إياهُ اليوم؟
بدا لي وكأنها تتحدث عن لغز محير .. 
-أي سؤال ؟!
-لما دخلت عندكم الحصة سألتِني إن كانت الموجهة حاضرة أو لا لبعض ما أحضرتُ معي ...
-لا تعليق صمتٌ واندهاش واسع اللهجة
-أنا ما آتيكم بلوحة كل يوم فيها الأمثلة؟
-بلى
-أنا مقصرة معاكم ! ألستُ آتيكم يوميا بأمور معي ؟!
-أجبتُ جوابا صبغتني فيه المجاملة وشعرتُ وقتها بأن الحكمة كل الحكمة في " التسليك" الذي لم يكن معروفا بهذه الكلمة آنذاك !
أنهيتُ الحوار معها وأنا أشعر بتعرق شديد وكم من الخجل والخيبة في كسر قلبٍ جديد .. شعرتُ بأن روحي تستجديها بألا تغضب ! وكم كنتُ مرهفة حينها ومولعة بفكرة التصالح مع الكون والوداعة واللطافة وإلا كان يمكن أن أكون أقوى وأجابهها بالحقيقة.

ما آلمني أكثر هو تصالحها الرهيب مع فكرة كمالها أمام كلمة من طالبتها الصغيرة التي كادت تكون مؤشرا خافتا وعفويا لحقيقة تغيب عنها.

لم تعجبني فكرة انكفائها على قلبها ليكون بمأمن من هجمات الحقيقة التي قد تكون شرسة في صورتها ولكنها مفيدة للحق والغاية ، كنتُ أتمنى أن تقول لنفسها اسمعي وعي بدل أن تُسمعني وتوعيني بصحة دورها وسلامة منطقها وكمال وجمال ما تقدم !

أعودُ بعد هذا العمر من تلك المرحلة لأقول لنفسي هل تغيّر موقفي الآن؟!
ولو عاد بي الزمن هل سأسأل سؤالي نفسه مع إصراري على الحقيقة دون مواربة عند المكاشفة والعتاب ؟!
أقول إن الذي تغير الآن هو أني حزينة على أني لم أبقَ مصرة على موقفي من خطئها وأنها حاولت التجمّل أمام الموجهة لتكون صورتها في سجلات الإشراف لامعة بغض النظر عن صورتها أمام طالباتها ، وصورة طالباتها أمام المجتمع وصورة المجتمع الذي سينشأ على أيديهن من جديد.

هذه المعلمة نفسها هي التي وقفتُ بين يديها حين أسأت الاختيار لأستشيرها في أول شعر كسيح أعرج كتبته لم تكن اختيارا مناسبا ولم ترشدني لحقيقة ما يجب فعله إزاء هذا الشيء الجديد الذي كتبته كل ما أذكره أنها عابت عليّ مشابهة مطلعي مطلع الشاعر العراقي الذي رثى بغداد عندما قال :
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ....
وكان مطلعي :
من ذا رثاك يا رمضان من قبلي ...
ونعتته بأنه تقليد 
والحمد لله أني كنت من الاعتداد بنفسي أن تذكرتُ معارضات الشعراء لبعضهم ولم يكن في ذلك عيب!
لكن كلامها المحبط جعل بيني وبين الشعر بعدًا 

هذه المعلمة نفسها التي تجاهلتني تماما عندما طُلب من المعلمات ترشيح أفضل الملقيات لديهن ، والحمد لله أن معلمتي الأخرى التي كانت تدرّسني الإنشاء عادت ورشحتني فلما علمت صاحبتنا بذلك ، دخلت الفصل معتذرة وقالت : ما أدري كيف نسيتك يا أبرار !

وكم أتمنى ألا يفهم قارئي الكريم من حديثي أنني أبغضها أو أحمل عليها في قلبي غلا أو حقدا ! لا والله ! إنما هي قصص ذهبت منها مرارتها وبقيت ذكراها ، وإلا فأستاذتي تلك محل تقدير عندي فلقد صبرت على نزقي وطيشي عليها كثيرا ! وإن كان الموقف الذي مرّ بالأعلى يُعدّ في رصيد الطيش فهذا واحد من عدد من المواقف التي فعلتُها معها ومع ذلك ما زالت تحبني حتى تخرجتُ وأقولها بكل ثقة. أما الآن فقد انقطعت السبل بيننا لكني قبل سنتين من كتابتي هذه رأيتُها في حفل زفاف وكانت تجلسُ  بعيدة عني وخرجتُ من القاعة وسط ترددي هل أسلم أو لا ولم أفعل .


أتمنى ممن يصل إلى هنا أن يودع تعليقا لطيفا يليق بمروره ( وردة وقلب حمراوان )

هناك 4 تعليقات:

  1. ما أجمل سردك للقصة، و عرفتُكِ شاعرة يا برو القمر.
    هذه القصة تكررت ربما في أغلب المدارس، و فعل المعلمات كان محل سخرية منّا، فقد تجلس على الكرسي و تقرأ من الكتاب ثم نراها فجأة اكتشفت مكان السبورة و انقلبت إلى محاضر نشط يتنقل بين الحضور المندهش بالأسئلة، و هذا الانقلاب الكبير له سبب واحد، تلك التي تستفرد بماصة و كرسي في آخر الصف.
    كنتُ أعتبر تلك المعلمة مخادعة، خائنة للأمانة، متصنعة، باختصار: كذّابة!
    و عندما كبرتُ و تعلّمتُ أكثر و خصوصا في الجامعة بدأت أعذر البعض، و الآن، بدأت أعذر الكل، فلا أعرف مبررات تلك التي لا تحضر شئيا طوال العام، لكنّي أطالبها بشرح مبدع يشفع لها، بتعامل راقٍ يقف معها منّا عند حضور ضيفة ثقيلة نوعا كالمشرفة. و القّلة منهن مقصرات مفرّطات سيعرفن ذلك من أفواه طالباتهن، فطالبة اليوم تقول للمعلمة أنها تفعل ذلك بسبب الموجهة و تقولها بطريقة ساخرة شامتة..و سمعتُ ذلك منهن عن بعض زميلاتي و كنّ يفتعلن موقفا لإرباك المعلمة أمام الموجهة أيضا..بعض الطالبات و ليس كلهن بالطبع.
    كنت أخشى أن أكون كمعلمتي تلك.. و عندما وقفتُ أمام الطالبات سألتهن بالله أن يكنّ هنّ كما كل حصة بغض النظر عن وجود أحد.. و كنت أتعمّد أن تكون الحصة الأولى للمشرفة حصة درس يعتمد على الألقاء، و اتحدث بالعامية أيضا، و قد أفتح موضوعا جانبيا كما كل حصة لآرائهن، و أتجاهل وجود تلك الضيفة.. طالبتي هي من سيذكرني و هي الأولى بمحاسبتي فكنت أطلب منهن تقييما للاختبارات، و للدرجات، و لتعاملي الشخصي معهن.. فكن دائما يرفعن أيديهن حبا بالمشاركة معي وقت حضور الضيفة و هن يعرفن طريقتي..بل أنّي أنهيت درسي الصغير في زمن أقل بخمس دقائق و طلبتُ منهن أن يغلقن الكتب و هذا وقت للراحة كعادتي معهن فضحكن و أبقينها مفتوحة ربما خوفا من الضيفة:)
    كانت التعليقات من طالباتي ترضيني أما المشرفة فأقول لها سمعا و طاعة و أفعل ما أراهُ مناسبا من أقوالها و احتمل منها كل كلمات النقد..هي منها هيّنة جدا أما من طالباتي فقاسية جدا..لا أريدهن أن يسخر مني..و قد سألنني عن هذا التصرف الغريب فقلتُ لهن أن المهم أن تفهمي أنتِ الدرس، و أما المشرفة فأعرف ما ذا أقول لها فلا تنشغلي بها.
    ربما اعتبرت زميلاتي طريقتي خاطئة.. و اعتبرتها مديرتي ظالمة لي..لكنّي أحب أن أكون في نظر طالباتي صادقة.وهذا المهم عندي...
    ثرثرتُ طويلا:) أسجل الوداع بقلوب كبيرة محبّة لكِ..و لكل معلماتي المتصنعات و غير المتصنعات:) و لكل طالباتي الصغيرات و الكبيرات.

    ردحذف
  2. مرحبا بكِ كم سرّني وأبهجني تعليقك (قلوب ) !
    نحن حقيقة بحاجة ماسة لمعلمات مثلك تغمض عينيها عن سطوة التقييم الإداري
    الذي يُشعركِ عند قراءة بنوده أنكِ رجل آلي غير قابل للتصرف الإبداعي ولا الإنتاج الجديد
    وحتى يكون ناجحا في نظرهم ومقبولا فإن عليه أن ينفذ اللائحة بحذافيرها ..
    وهذا ما لا يقبله المعلم الناصح على نفسه ، وسوف يجني المعلم المكافح الثمار يانعة مهما كلفه أمر بذرها وسقيها وحصدها من ثمن ..
    أكرر شكري لمرورك وتعليقك الذي أشعرني بالحياة وأن هناك من يقرأ لي :) .

    ردحذف
  3. قصة ممتعة حدثا وصياغة
    وأكثر ما لفت نظري هو اعتدادك بنفسك الذي حافظ على الموهبة عندك
    كلمات الإحباط من المعلم للطالب خطر كبير على شخصية الطالب
    وقد يودي بالموهبة ويحطمها تماما
    مجاملتك الأولى لها تدل على الحكمة المبكرة لديك في هذا السن !
    أنصحك بمواصلتها ولو كل فترة
    فلها حق عليك ولا ريب
    ولكن بالطبع لكل ممن علمك مقام معلوم
    ولا أظن أنها في المقدمة

    ردحذف
    الردود
    1. مرحبا بأستاذنا الكريم سرني تعليقكم ومشاركتم ..
      صحيح أني كنت معتدة بنفسي ، لكن كلمتها جعلت بيني وبين الشعر حاجزا لفترة طويلة
      تمنيت أنها نصحتني بالقراءة أو أطلعتني على كتب تعينني للتعرف على الشعر أكثر
      لكن لعل هذا الفضل لم يكن من حظها ..
      وكم أتمنى حقا أن أتواصل معها لكن ليس لدي رقمها للأسف
      و لا أعرف هل سترحب بفكرة اتصالي بها بعد هذه السنوات ؟

      شكرا جزيلا على المرور والتعليق بارك الله فيكم !

      حذف