
لو أنّ "لو" تقدم وتؤخر ، ولا تفتح أبواب الشياطين ، لأغنت عني شيئا من حرّ ما وجدت ، ولأخرست دمعاتٍ نطقت بما لقيت من هوان وأسى .
من الأحد إلى الأحد توحد الهم واستجمع قواه ليغزو قلبي الصغير ، ليجمع عليه ألوانا شتى من الهموم ، ليعلمني أن في الحياة هموما لم أجربها بعد ! إنه لهبُ المسؤولية ، وحرّ الراعي والرعية .
استفقت من حميّا سكرتي بلذة التجربة الجديدة على فراش أشبه ما يكون بالحصير في زاوية بالكاد تسع جسدي النحيل أنتظر من أولئك الرهط نظرة إحساس ، واستحياء مما لا يليق بي ، ولكن لا حياة لمن تنادي !
كان عليّ أن أتملّق كي أحصل على ما أريد ، ولئن أبيت على الطين أحب إليّ من أن أتملق أحدا أو " أدحلس " باللغة الدارجة !
رضيتُ تلك الزاوية المزعجة على أن أحني ظهري لبشر !
ومضيتُ أستشعر حريتي وعزة نفسي ، أصبح الصباح على صوتِ جوالي الأرعن ذي النغمة المجبرة على الاكتئاب "جوال أبو كشاف " حضر ليؤدي مهمة التنغيص علي في أوقات راحتي !
قمتُ ولم أطلب من النائمات مرافقتي في هذه المسؤليّة ، وما إن عدت لغفوتي حتى باغتني صوت الجوال لينغص علي مرة أخرى النومة المنغصة !
بدأ يومي باكرا على غير عادته ، وعند توسط الشمس في كبد السماء ، توقفت مصادر التبريد عن عملها وضاقت بنا الأرض بما رحبت ، فكرتُ بجد في العودة ، ولكن شيئا في نفسي يقول : أكملي فهناك ما ينبغي أن تجربيه !
هطلت دمعاتي ساعة الحيرة على غير ميعاد معها ، وأشحتُ بوجهي لئلا يروا ضعفي وقلة حيلتي، ثم استجمعت قواي وقلت سأكمل !
مر الوقتُ كأبطأ ما يكون مرورا ، الساعة تساوي يوما كاملا في اتساعها وثقلها ، ولما حل الظلام بدأ الناس يتوافدون من كل فجّ عميق ...
هنا كان علينا ألا ننام وننتظر حتى يشيخ الظلام فتلتمعُ أضواؤه وبالفعل لم ننم إلا ساعة من ليل سابقه الفجرُ فقمنا مصلين.
وبدأ العمل الجاد مع صباح يوم التروية أذهب وأجيء على قدميّ وأحاول العمل بجد أقسم الأدوار وأوزع المهام التي أعيتني توزيعا لقلة العدد وكثرة المهام ثلاث وجبات رئيسية لا نقاش فيها تمتد أوقاتها لثماني ساعات متفرقة من اليوم يبدأ الإفطار عند السادسة صباحا وينتهي تمام التاسعة ويبدأ الغداء عند الواحدة مساءً وينتهي عند الرابعة ، ويحضر العشاء في الساعة الثامنة وينتهي عند الساعة الحادية عشرة ، لم يكن هذا العناءُ وحده ما يشغل وقتي بل تشاركه عناءات أخرى تتخلل الأوقات المتبقية في اليوم فالماء مثلا يحتاج إلى تعبئة دورية لأن العطش على أوجه ! والعصيرات والمشروبات لا بد أن تكون باردة ومتوفرة ، هذا غير القهوة والشاي وتوابع ذلك كله من فطائر وكعك و و و إلخ !
باختصار كنتُ أحمل على عاتقيّ مسألة إطعام ٤٠٠ حاجة إلا قليلا !
يتناولن الغداء وأعينهن على الوجبات الخفيفة ! ويأكلن العشاء وهن في انتظار القهوة التي " تعدل المزاج " خرجن من بيوتهن وهن لا يردن أن يشعرن بأي عناء حتى وإن كان من طبيعة الرحلة إلى الله ، رحلة الحج التي يتخفف فيها الإنسان من متع الدنيا وشهواتها ويخلي قلبه ليأمل فيما عند الله من عطايا .
في ذلك اليوم يوم التروية قمنا بتوزيع العشاء على أكمل وجه ، شاركنا في تلك الليلة المطر الذي بل جوانحنا وترك الحاجات يتضرعن إلى الله بكل انكسار وذل تبكي السماء وهنّ يبكين بالدعاء ، كان المشهد مؤثرا جدا .
انتهى المطر وانتهى العشاء ، وذهبتُ أنا لأتخفف من أعباء اليوم بالاستحمام ، وكلي أمل بنومة تريحني من عناء اليوم الشاقّ !
خرجتُ من حمامي والمكان خاوٍ على عروشه ! خالٍ من البشر إلا مني وممن هن معي ، بادي الرأي شعرتُ بالسعادة والفرح لأننا سنتفرغ للنوم ، سنتفرغ لترتيب أوراقنا من جديد ، ولكن السؤال الذي انتظرت جوابه متى سنذهب مع الحجيج إلى عرفة ، ومن سيذهب بنا وكيف ؟
كانت معنا حاجة حبشية تطوعت بالعمل مقابل الحج ، فتساءل من معي كيف ستفوت هذه وقوف عرفة والحج عرفة ؟
هنا اتصلتُ بزوجة صاحب العمل وسألتها كيف سيمضي شأن فلانة !
قالت : وأنتم ألم تذهبوا ؟ قالت لها : ليس لنا داع ولم يطلبنا أحد ..! كان كلامي بناءً على من أفتى من رأسه بذلك وأنا لا أعلم أنه يتحدث من تلقاء نفسه !
حُملتُ مسؤولية هذا الخطأ رغم أني بريئة منه فقد اقتسمتُ الخطأ أنا وهم فالمشرف المسؤول عنا لم يخبرني بكيفية الذهاب ، ومشرفة الحملة عفا الله عنها لم تنظر إلينا ولو بالخطأ ولم تسأل عنا ولم تدرِ بنا ! وأنا خطئي أني لم أتفضل بالسؤال عن مصائرنا ! رغم أني سألتُ وكان الجواب عجيبا !
وجاء الليل ولم أهنأ بنوم فقد قضيت الليل تصحبني دموعي ألما لما جرى وأسفا على حالنا الذي لا نحسد عليه !
يسر الله لنا الوصول إلى عرفة بسيارة " ونيت أبو غمارتين" ركبتُ أنا ومساعدتي واثنتين من عاملاتي في الغمارة الثانية وتركنا الباقيات وهن ثلاث يركبن في الخلف !
وبعد مدة ليست باليسيرة دخلنا عرفات وقد دخل وقت الفجر وأوشك على الخروج ...
تماسكتُ عندما دخلتُ وصليت الفجر و وقفت بنفسي على إطعام الحاجات ، وصويحباتي يجلبن الأشياء من الخارج ويضعن الجبن والحلوى والبيض والخبز على طاولات في العراء مكشوفة ، وتأخر الماء المغلي كثيرا ، وعندما تأكدت أن أغلب الحاجات أفطرن ، وأن من بقي سيقدر على أن يأخذ ما يريد دون أن يشعر بالنقص تركت موقعي ولذتُ بالفراش كي أستجمع قوتي وأكمل بقية اليوم .
نمت مالا يزيد عن ساعتين ثم هرعتُ إلى موقعي لأجد الشمس قد استقرت على النواصي كأشد ما تكون الشموس حرارة وأذى ، إنها شمس العاشرة ، شمس العاشرة التي سلبتني لوني وأبدلتني لونا داكنا يحتاج إلى أمد كي يعود لوني الطبيعي .
مر ذلك اليوم في طلب الماء والغداء ، تم توزيع الغداء وبعدها شعرت بالإعياء الشديد حاولت التماسك ، كنتُ صائمة ذلك اليوم انعزلت جانبا لأترك للدمع مجالا وسفكت دمعي كان دمعا غزيرا محملا بدعوات حارة ، كان دمعا لم أهريقه منذ أمد ، دمعٌ يخرج من قرارة القلب ويستقر في يديّ ، ومما زادني أسفا وهما مراوغة من حولي لي ، واستغفالهم إياي إذ إن عملهم مشروط بعدم الحج وقد حججن حجة الله أعلم بحكمها ! ولم يخبرنني ظنا منهن أني لن أعرف هذه الحيلة، وعرفت ولكن لم أنطق ولم أتكلم
قرب الأذان وقدمت قرابين دمعٍ لا أظن أني بكيته في حياتي ، بكيت ألمي ، بكيت همي ، بكيت غبني ، بكيتُ غربتي ، بكيت تعبي ، بكيت هواني بكيت كل شيء آسفني ، كنت أجلس في قارعة الطريق أترقب الأذان وسط ذلك المكان المظلم فقد انطفأت الكهرباء منذ آخر الظهيرة وحتى خروجنا من المخيم ...
خروجنا الذي ازدحم واصطك بعدد لا يحصيه إلا الله عدد كبير وجمع غفير رغم أنا لم نكن متعجلين على الخروج !
عدنا إلى مزدلفة بعد منتصف الليل ، مزدلفة مخيمنا ذاته في الفئة هـ .
وجاء صباح العيد لم أنم ليلتي تلك إلا ما لا يزيد عن ساعة فقد كانت الطلبات والاتصالات لا تنقطع .
استأنفنا العمل صباحا و لم أطق الأكل من شدة الوهن ، مرت علي وجبتان لم آكل منها حتى أقل مما يكفيني وزادت علي الأوجاع وبدأت رجلي اليمنى تؤلمني حتى ثقلت علي جدا ، اتصلت بي زوجة صاحب العمل تطمئن على الوضع فانفجرت فيها باكية شاكية وأغلقت الخط لأني لم أقدر على الكلام ، وضعت رأسي في محاولة للنوم فلم أقدر وهنا كانت لحظة الانهيار والانفجار ، ذهبت لطبيبة الحملة أبكي بكاء مريرا وأشير إلى موضع الألم وأقول : " هنا يعورني "
سألتني الدكتورة : تغديت ؟ قلت لها : لا أريد طعاما أريد أن أنام ، حاولت تهدئتي و أرشدتني إلى ضرورة أكل أي شيء وشرب الدواء والنوم
فعلت ما قالته لي ونمت ودمعتي على خدي ، نمت ولم أكن أحسبني سأنام نمت من الساعة السادسة ولم أشعر بنفسي إلا الساعة التاسعة !
قمت وقد اجتمعت النساء على طاولة في الخارج حتى إنني ظننت الساعة قامت ! وإذا بامرأة تسألني عن العشاء والمشرفات الأخريات يسألونني ويطلبونني بعض الأشياء ..
تركتهن بعد أن اختصرت الكلام ثم توضأت وصليت المغرب والعشاء عفا الله عني وعن تقصيري .
التفت إليهن فإذا الحلوى قد مدت أصنافها أمامهن وهن يسألنني عن العشاء ! استعاذ أحد المتصلين من جهة الرجال من هذه النفوس متعجبا ومبهوتا !
وبعد معمعة الحلويات جاء العشاء وتفضلت النساء بالأكل جعله الله طعاما يعينهن على مرضاته وتقبل الله حجتهن !
هناك التمع ضوءٌ صغير ، وبصيص من نور قلبٌ طيب يضوع طيبا كان يترقبني ولم أكن أعلم ! روح محبة كانت تتجول حولي ، تتأملني تضع يدها على شعري وتشاركني مأساتي وأنا في سباتي العميق وغيبوبتي العجيبة !
جاءت بعد أن وعيت الدنيا تسألني عني وتطمئن ثم اعترفت أنها كانت قريبة ، ثم أفصحت عن ارتياحها لي ، وقليلا قليلا باحت لي بمشاعرها القلبية وأخبرتني أنها تحبني كررتها كثيرا وأعادتها علي .
فرحتُ بهذا القلب الحاج الزائر للبقاع الطاهرة إذ أحبني ، سعدت بهذا الكم من المشاعر التي جاءت في وقت كنت أتحامى فيه أي نظرة تستنقصني وتظن أني إنما جئت للحاجة والمسكنة !
اعترفت واقتربت فأفسحت لها المجال للدخول بلا استئذان ، مرت الأيام ومرّ فيها من الأسى ما مر أشكالا وألوانا ومن السعادات أشكالا وألوانا وبقيت دروس في مخيلتي لا تمنحني إياها إلا أكاديمية الحياة والتجربة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق