الأربعاء، نوفمبر 20، 2019

نقطة سوداء.

    نتيجة بحث الصور عن نقطة سوداء

    قد لا أكون فهمتُ معنى ترك الأثر الطيب بعد، أو ربما فهمتُ ولكنني بحاجة إلى مراجعة الماضي لأجد آثار من غادروا، من الناس من يغادر شجنًا لا يكاد ينفكّ، ومنهم من يغادر حبًّا وحنينا لا تزيده الأيام إلا تعملقا، ومنهم من يغادر جرحًا لا تستقيم الحياة بعده، ومنهم من يغادر أثرًا سيئا يقف حائلا دونك ودون صفاء نفسك تجاه هذا الشخص..
    من آخر صنف أذكر تلك المعلمة القديرة جدا التي اختارت أن تكون نقطة سوداء في ذاكرة كل طالبة مرت بها، وهو الخيار الأسوأ بين خيارات كثيرة ربما أقل سوءا!
  في ظهيرة ذلك اليوم شاءت المدرسة أن تدهم طالباتها بتفتيش مفاجئ، في حصة النشاط الوحيدة التي كانت تقيمها بشكل أسبوعي، وكانوا يصادرون حتى المرايا، والعطر، وغيرها من الأشياء التي لا تستغني الفتيات عنها، التي أصبحت اليوم بديهة مسلمة ولم تعد من الممنوعات، هذا إن كانوا يفتشونهم إلى اليوم أصلا!التفتيش كان يجرى بصورة مهينة، حيث تقف الطالبات آخر الفصل تاركة كل مالها في مكانها، ليتم إذلالها بالتنبيش في أغراضها، ولأن (دفتر الذكريات) المنعوت بالأوتوجراف كان من الكبائر والجرائم التي لا تغتفر فقد صودر من بين الأشياء البريئة التي وجدوها في حقائب البنات، ووقفت تلك النقطة السوداء لتنده على صاحبة الأوتوجراف لمن هذا الشيء!
   جاءت لتأخذه وبعد مشادة بين المعلمة والطالبة أدارت الطالبة ظهرها لتعود إلى مكانها فشدت المعلمة شعرها، صرخت الفتاة: (سيبي شعري يا حيوانة!) فما كان من المعلمة الحكيمة إلا أن قالت: (يا بنت الشوارع!!!!) كلمة يهوي لها أحد وينهد ثهلان!
   ساد الصمت المكان، ولم يرع الطالبات إلا صبيحة اليوم التالي حيث وجهت دعوة لأم الطالبة الفاسقة المتمردة ذات الأدب المنحل والأخلاق السافلة لتأتي وتعتذر نظير سوء تربيتها لابنتها، ولكن الأم كان رأسها أكبر من هذا كله، فأرسلت ابنتها لتتولى المهمة عنها! وفي جمع الطالبات مع طابور الصباح (على الريق)، تقدمت المعلمة وزبانيتها والمديرة -رحمها الله- وأصدروا بيانا في شأن (بنت الـ.....) يقضي باعتذار الوالدة عما بدر من ابنتها أمام البنات، كي تكون (بنت الـ....) عظة وعبرة لغيرها، واعتذرت أختها!
أما المعلمة التي قذفت فلم يكن عليها أن تعتذر أيضا نظير الكلمة الساقطة التي قالتها، بل كان يجب أن تشهّر بالطالبة لأنها أساءت الأدب، بعد أن كان موقفا جزئيا حصل في فصل منعزل عن بقية المدرسة، صار موقفا مشهودا، تذكره القاصية والدانية، ويكفي لمعرفة ذلك أنني أروي هذه القصة خبرًا عن أختي التي شهدت الموقف بتفاصيله، فهل توقف إجرامها عند هذا الحد؟
    بالطبع لا فمن عادة المجرم المستعلي على الناس أنه يصاب بإدمان الجريمة حين لا يجد رادعًا يصده، أما ثقافة (أنا لا شأن لي) فقد طُبقت في المدرسة بحذافيرها، فالمدرسة مليئة بالمعلمات المتميزات الطيبات ذوات الخلق الحسن، ولكن لم يكنّ لهن أثر باد في إيقاف هذه المتعجرفة، ولربما بذلوا جهدا ولكن لا حياة لمن تنادي!
    حينما كنت في الصف الثاني ثانوي تحديدا حصلت جلبة في الغرفة المخصصة للحاسب الآلي، وأصوات تنبئ عن وجود ريبة هناك، لم يجذب ذلك انتباه الكثيرات، ولكننا عرفنا أن في الأمر شيئا، وعدنا إلى منازلنا بعد انتهاء الدوام! وفي اليوم التالي أقيمت محاضرة قيمة جدا عن بر الوالدين، فقدت هذه المحاضرة قيمتها عندما وجدنا أمًّا بعد المحاضرة مباشرة تلطم ابنتها أمام الطوابير، أتدرون لماذا؟ لقد كان ذلك انتقامًا للحدث الذي حصل أمس، لم نفهم الحدث ولم نعرف القصة، ولكن الحدث الذي جرى قبل ثلاث سنوات تكرر مرة أخرى، طالبة أخطأت خطأ جزئيا (على افتراض أنها أخطأت) في مكان معين على هذه المعلمة، وإذا لم تخني الذاكرة أنه كان في الأمر نميمة، فشهر بها أمام المدرسة كلها، وهذا الحدث أسوأ حالا من ماضيه، إذ إن يوم المحاضرة يوم تجتمع فيه المعلمات كلهن، فضلا عن الطالبات، وهذه الأم جاءت بنفسها لتؤدي مهمة إرضاء غرور تلك المعلمة لتصك وجه ابنتها أمام أولئك كلهم، وبعد محاضرة عن بر الوالدين! وبعد الضرب قالت المعلمة: جزمتي أشرف منك، وهددت المديرة -رحمها الله-: كدنا أن نفصلها لولا أن المعلمة تنازلت ورضيت بأن تضربها أمها أمام الطالبات ويكون ذلك جزاءً وفاقا!  جزاء ماذا؟ وفاق ماذا؟ لا أدري، ونحن ما شأننا فيها ولأي شيء أدخلتمونا في دوامات غرور هذه المعلمة وإرضاء النقص الذي فيها !
    لم يتوقف العقاب عند هذا الحد، فالطالبة خريجة جاءت يوم حفلها متزينة لبست ثوب التخرج، وسرحت شعرها بشكل جميل كبقية صديقاتها، فحرمت من المسيرة، وأجلسوها مع الحاضرات ولم تكرم كبقية زميلاتها.
   هذه المواقف الكبرى التي شهدتها أو حكيت لي وما غاب عني فهو بلا شك أكثر من هذا، أما عن الجزئية الصغيرة فحدث ولا حرج، ، مرة كانت هي المسؤولة عن تنظيم حفل ما ولعله من شقوتي أني اشتركت فيه، إذ تأخرت قليلًا عن موعد التدريب، وحين جئت سفعت ناصيتي وأدخلتني بها إلى الفصل، تريد بذلك الممازحة، لكنني ابتسمت وتركت المسألة (تعدي على خير) حتى الآن أشعر بحرّ كرامتي كيف رضيتُ لها وكيف أكملت سبيلي كأن شيئا لم يحدث! وهذا من ندمي على السكوت!
    وإنه لمن حسن حظي أنها لم تدرسني إلا بديلة لأسابيع عن معلمتنا الأساسية، ولكم كنت أرثي للذين يقعون تحت قبضتها، حصلت مواقف في تلك الأسابيع، وأعلق موقف في ذاكرتي منها موقفٌ يدل على قلة مروءتها، حين طلبت من الطالبات المشاركة بالدوران بأطلس البلدان، رفعت إيمان يدها، فقالت لها: أنت لا ! فأبدت إيمان انكسارها فقالت لها: انفلقي (وهي كلمة تعني تغيظي وازدادي حنقا حتى تنفجري).



*ملحوظات:
- أعتذر جدا عن الكلمات الخارجة عن النسق، والألفاظ غير الجيدة الواردة في القصة.
- ما زال الحديث عن هذه المعلمة سيئا حتى بعد تخرجي بسنوات.
- لئن لقيتها (إن شاء الله) لأخبرنها بالأثر السيئ الذي تركته في نفسي.
- أتمنى ممن وصل إلى هنا أن يترك لي تعليقًا آنسُ به.

هناك تعليقان (2):

  1. جميل وفقك الله وسددك حتى أن المكتوب رسالة للمعلمات .. أمّا قائلة انفلقي هذه فلا أقول عنها إلّا قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق.. ملاحظة بسيطة لعلها سقطت منك بعض الحروف الواو في دون والألف في تداهم لك المحبة والتقدير يا لُطف الرائعة.

    ردحذف
    الردود
    1. آمين .. أسأل الله الهداية لي وللمعلمات وأن يكنّ دعاة سلام ورحمة ..
      فعلا سقطت مني -عافاك الله- واو دون، ولكن الفعل (دهم) هو هكذا على ما جاء في اللغة، أما الفعل داهم فليس له وجود في المعجمات، وشكرا جزيلا على التعليق والتنبيه فقد أصلحت الغلط جزيت خيرا!

      حذف